في اليوم الدولي للأسرة… عائلات غزة تباد وتمحى من السجل المدني
مركز الميزان يستنكر الصمت الدولي أمام استمرار عمليات الإبادة والتهجير الجماعي للأسر في قطاع غزة
يصادف 15 من مايو من كل عام اليوم الدولي للأسر، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1993، بهدف التوعية بالقضايا المتعلقة بالأسر وتسليط الضوء على أهمية الأسرة كوحدة أساسية في بناء المجتمع، وبينما يحتفل بهذا اليوم عالمياً لتكريم الأسرة وتعزيز دورها، نقف في قطاع غزة أمام واحدة من أبشع صور الانتهاك الإنساني، إذ تتعرض الأسر الفلسطينية لجرائم إبادة ممنهجة بفعل العدوان العسكري الإسرائيلي المستمر والحصار الخانق، وتمحى آلاف الأسر في غزة عن الوجود، وتباد منازلها بمن فيها، وتشتت وتنقطع روباطها، في هجمات مستمرة لم تميز بين طفل وامرأة، ولا بين الجد والحفيد.
لقد استخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ إعلانها الحرب على قطاع غزة في أكتوبر2023، أحدث الطائرات العسكرية المزودة بأكثر القذائف الصاروخية فتكاً، والمعدة لمهاجمة التحصينات العسكرية، لتنفيذ أبشع جرائم الإعدام الجماعي للأسر في قطاع غزة من خلال استهداف المنازل السكنية وخيام النازحين فوق رؤوس ساكنيها، وشطبت أسر بأكملها من السجل المدني، ويظهر سلوكها بشكل واضح بأن الهدف هو ارتكاب مجازر وتنفيذ حكم الإعدام لعائلات بأكملها وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف المدنيين، دون تحقيق أي ميزة عسكرية، أو أدنى التزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني ( التمييز، والضرورة، والتناسب)، فمعظم المنازل المستهدفة والتي دمرت فوق رؤوس ساكنيها لم تكن في المناطق التي تشهد عمليات عسكرية أو توغل بري لقوات الاحتلال، ولم يتم استخدام أي وسيلة تحذير أو أوامر بإخلائها على الرغم من قدرة قوات الاحتلال على ذلك.
وتستخدم قنابل وصواريخ ذات قوة تدميرية هائلة خلال استهدافها المنازل والأحياء السكنية، وتتبع أسلوب ما بات يعرف بالأحزمة النارية التي تستخدم خلالها كثافة نارية وقوة تفجيرية عالية، الأمر الذي يؤدي إلى تدمير واسع في المربعات السكنية المستهدفة في لحظات ودون سابق إنذار، وقتل وإصابة كل من كان يتواجد بداخلها، وتدمير عشرات المنازل في لحظات ودون سابق انذار، ورغم عدد الضحايا الكبير لعمليات قصف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، تواصل قوات الاحتلال اتباع هذه السياسة التي لم تتوقف ليوم واحد منذ أكثر من 587 يوماً على جريمة الإبادة الجماعية المستمرة.
وبحسب آخر الإحصائيات، فقد بلغت حصيلة الشهداء منذ أكتوبر 2023، وحتى الآن (51,065) شهيداً أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، فيما لايزال مصير أكثر من (10000) مجهول أو تحت أنقاض المنازل المدمرة، وبلغ عدد المجازر المرتكبة منذ بدء العدوان الإسرائيلي ( 11,859) مجزرة بحق الأسر الفلسطينية. أدت إلى مسح كامل لعدد (2,172) أسرة لم ينجوا منها أحد، وعدد أفراد هذه الأسر (6,180) شهيداً، وأكثر من (5,070) أسرة بقي فيها ناجي وحيد، وعدد أفراد هذه الأسر أكثر من (9,280) شهيداً، بالاضافة إلى الآلاف من الأسر الأخرى التي فقدت أكثر من شخص.
يشير العدد الكبير للضحايا بما فيهم من نساء وأطفال وكبار السن، بأن قوات الاحتلال اتخذت من سياسة القتل الجماعي أداة لتنفيذ جريمة الإبادة الجماعية، وبأنها ليست ناتجة عن أحداث عرضية أو فردية، بل هي سياسة ممنهجة يتم تنفيذها منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وفي لحظة إعداد هذا البيان، وشاهد على ما تواجهه الأسر الفلسطينية في قطاع غزة، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدة مجازر طالت مجموعة من الأسر في محافظة شمال غزة، حيث شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية وبشكل مفاجئ عند حوالي الساعة 2:00 من فجر اليوم الأربعاء الموافق 14/5/2025، غارات جوية متزامنة استهدفت خلالها منازل المواطنين في مخيم جباليا وبلدة جباليا، ما أسفر عن استشهاد 49 مواطناً، من بينهم 27 طفلاً و9 نساء، في جريمة إبادة عائلية جماعية طالت عائلة مقبل، والقطناني، وسويلم، والنجار، وعائلة خلة، وغيرهم، وخلفت دماراً هائلاً في المنازل المحيطة، وأدت إلى إصابة عشرات الأفراد، وصفت جراح عدد منهم بالخطيرة.
ولم يقتصر العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة على القتل والتدمير فحسب، بل أدى إلى تشتيت آلاف الأسر وقطع أوصالها قسراً، نتيجة القصف العشوائي والتدمير الواسع للمنازل ومراكز الإيواء، وتهجير السكان من منطقة إلى أخرى في ظروف بالغة القسوة، حيث فقدت الصلة بين أفراد العائلة الواحدة، بعدما لقي بعضهم مصرعه تحت الركام، وبينما نزح آخرون إلى أماكن متفرقة، دون أي قدرة على التواصل أو ضمان الحد الأدنى من مقومات الحماية.
وتسبب فقدان أحد الوالدين أو كليهما، سواء بالقتل، أو الاعتقال، واستشهاد أطفال أو إخوة وأخوات، في تحطيم الروابط الأسرية، وخلف فجوات عاطفية ستستمر آثارها بشكل دائم. كما أن ظروف النزوح القسري، في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية، وتكدس العائلات في مراكز إيواء غير مهيأة، وسط الجوع وانتشار الأمراض، فاقمت من التوتر داخل الأسرة الواحدة، وحولت العلاقات الأسرية من مصدر للدعم إلى مساحة من الضغط والانهيار، وفي ظل انعدام الخصوصية، وغياب الأمان، وفقدان الموارد الأساسية، تتعرض الأسر الفلسطينية لتفكك متسارع ينذر بتداعيات نفسية واجتماعية طويلة الأمد، خاصة على الأطفال والنساء، في غياب أي حماية فعلية أو دعم دولي ملموس.
أفادت السيدة (ر.م) وهي أم لثلاثة أطفال: استشهد زوجي في إحدى الغارات على شمال قطاع غزة، ودمر منزلنا بشكل كامل، وأنا الآن مع أطفالي نعيش في منزل بالإيجار مع والدي وإخوتي، أعاني من الضغط النفسي المستمر، ولا أشعر بالأمان بعد رحيل زوجي، ولا يوجد لنا الآن مصدر دخل سوى ما يقدمه لي والدي وإخوتي، أطفالي يشعرون بالضعف، وبالصدمة، لم يعد موجود معنا من كان يحميهم ويداعبهم ويدللهم، أشعر بنفسي وأطفالي بأننا ضيوف، وأنتظر الصدقة والتعاطف، لا أعرف ماذا أفعل ولا أستطيع الاستمرار في الحياة بهذا الشكل.
مركز الميزان لحقوق الإنسان إذ يشدد على أهمية حماية الأسرة كوحدة أساسية في بناء المجتمعات، فإنه يستنكر في الوقت ذاته استمرار قوات الاحتلال الإسرائيلي في استهداف الأسرة الفلسطينية في قطاع غزة بشكل ممنهج في سياق جريمة إبادة جماعية وعمليات تشتيت قسري، ووسط صمت دولي فاضح وتقاعس خطير عن وقف هذه الجرائم. ويؤكد المركز أن الجرائم المرتكبة بحق العائلات الفلسطينية من قتل وتهجير وتدمير للبنية الاجتماعية والاقتصادية، تعد جرائم حرب وإبادة جماعية وتمثل تحدياً مباشراً للمنظومة القانونية الدولية، واختباراً حقيقياً لمصداقية المبادئ الإنسانية التي أسست عليها الأمم المتحدة ونظام العدالة الدولية.
وعليه، فإن مركز الميزان لحقوق الإنسان يطالب المجتمع الدولي بالتدخل الوفوري ولاعاجل لوقفالإبادة الجماعية، وحماية السكان المدنيين، وعلى رأسهم الأسر الفلسطينية، وإدخال المساعدات الإنسانية دون قيد أو شرط، بما يشمل الغذاء، والدواء، والمأوى، لضمان الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة للأسر المتضررة، والضغط على دولة الاحتلال لاحترام التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة.
كما يطالب المركز بتحرك سياسي ودبلوماسي جاد من الدول الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف لضمان إنفاذ القانون وحماية المدنيين، ويؤكد المركز على أن استمرار صمت المجتمع الدولي هو بمثابة تواطؤ في الجريمة، وإن إنقاذ ما تبقى من الأسر الفلسطينية، ووقف جرائم الإبادة الجماعية، ليس فقط إلتزاماً قانونياً، بل مسؤولية أخلاقية وإنسانية تقع على عاتق العالم بأسره.