إسرائيل تهندس الجوع وتكرس استخدامه كسلاح وتستخدم آلية توزيع تنتهك معايير العمل الإنساني
مركز الميزان يطالب بالتحرك الدولي العاجل لرفض التجويع ووقف الإبادة وتوفير الإغاثة الفورية للمدنيين
مركز الميزان لحقوق الإنسان يستنكر إمعان قوات الاحتلال في منع دخول الغوث الإنساني، وإصرارها على استخدام التجويع كسلاح حرب، وهندسة وعسكرة تقديم المساعدات، بما يضاعف من معاناة الفلسطينيين الجوعى ويمتهن كرامتهم، ويعرضهم للقتل والإصابة، مع انعدام كفاية المساعدات أو عدالة توزيعها، ويطالب المجتمع الدولي باتخاذ خطوات فعالة لوقف الإبادة الجماعية وضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون قيود، وتعزيز دور وكالات الأمم المتحدة في توزيعها، ويؤكد المركز على أنها لحظة فارقة في التاريخ، إما أن ينتصر البشر لإنسانيتهم أو يخسرونها إلى الأبد.
إن مبادئ الإنسانية والحياد والشفافية تشكل أسس العمل الإنساني وجوهره، التي تسعى لحفظ كرامة البشر ومساعدتهم على البقاء في ظروف الحروب كما في الكوارث الطبيعية، ولكن قوات الاحتلال الإسرائيلي وبمشاركة ومساعدة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أكثر من تسعة عشر شهراً من الإبادة الجماعية واستخدام التجويع كسلاح، وبعد حوالي 90 يوماً على منع دخول أي إمداد إنساني منقذ للحياة إلى قطاع غزة، قررتا منع عمل وكالات الأمم المتحدة المختلفة، وحصر توزيع المساعدات في جهة أو شركة جديدة، صممت كأداة بيد قوات الاحتلال، تهندس من خلالها الغوث الإنساني وتكرس استخدام التجويع كسلاح، وتنهك أبسط معايير العمل الإنساني.
وبدلاً من حفظ كرامات البشر، فإن هذه الآلية وجدت لتمتهن كرامتهم وتفاقم من معاناتهم، وهي تفتقر لأبسط معايير المساواة والحياد والشفافية والعدالة، وهي لا تمنح المساعدة إلا لمن يتمكن من الوصول إليها في ظل انعدام المواصلات وعدم قدرة الفلسطينيين على تحمل معاناة السير مسافات طويلة، وفي الوقت نفسه تجعلهم يحتشدون في ممرات من الأسلاك الشائكة في سلوك يذكر بسلوك النازيين إبان الحرب العالمية الثانية.
إن الآلية الجديدة بدأت عملها على ما يبدو للالتفاف على الضغوط الدولية الرامية إلى دفع دولة الاحتلال للسماح بحرية مرور الإرساليات الإنسانية على اختلافها كالغذاء والدواء والوقود، لتظهر أن توزيع السلات الغذائية وحده يكفي حاجات سكان القطاع، وأبقت على منع إدخالها الوقود لتشغيل المنشآت الحيوية التي لا غنى عنها وحياة السكان، والدواء الذي أصبح توفيره مستحيلاً داخل القطاع. كما أن عمليات التوزيع التي حدثت كانت تفتقر لسجل، وكل من تمكن من الوصول كان بإمكانه أن يتسلم المساعدة بما في ذلك أشخاص متعددين من الأسرة نفسها، ما يفند مزاعمها حول تنظيم حصول المستفيدين على المساعدات. كما أنها فتحت النيران مرات عدة على جموع الجوعى المحتشدين لتلقي المساعدة فقتلت وأوقعت جرحى واعتقلت آخرين، وتحولت الآلية إلى مصدر ألم ومعاناة وامتهان للكرامة الإنسانية.
في حين كانت الآليات المستخدمة من قبل الأونروا وبرنامج الغذاء العالمي وغيرها من وكالات الأمم المتحدة والمؤسسات غير الحكومية الدولية والمحلية، تستند في توزيع المساعدات إلى سجلات رسمية حيث توزع الحصص حسب عدد أفراد الأسرة وفي اماكن توزيع قريبة منهم يسهل الوصول اليها، وتوزع عليهم بطريقة منظمة وهادئة تحفظ كرامتهم وتحقق غايتها في إنقاذ حياتهم.
ووفق متابعة مركز الميزان لحقوق الإنسان الميدانية، فبعد إعلان قوات الاحتلال الإسرائيلي عن الشروع في عملية توزيع المساعدات الإنسانية من خلال منظمة غزة الإنسانية، ونشرها مجموعة من الصور عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لأشخاص ادعت بأنهم حصلوا على طرود غذائية من نقطة توزيع غرب مدينة رفح، توافد صباح اليوم التالي الثلاثاء الموافق 27 مايو 2025، المئات من النازحين الفلسطينيين إلى نقطة توزيع مساعدات أقامتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بجوار مستشفى حمد بن خليفة، في حي تل السلطان جنوب غرب مدينة رفح للحصول على المساعدة، على الرغم من حالة الغموض والمخاطر والصعوبات التي واجهتهم، فقد أجبروا على السير مشياً على الأقدام عدة كيلو مترات وصولاً إلى مناطق خطرة تسيطر عليها قوات الاحتلال غرب مدينة رفح، وتم توجيه من تمكن من الوصول من النازحين إلى طرق محاطة بالأسلاك الشائكة، للوصول إلى نقطة التوزيع لاستلام الطرد الذي يحتوي على اليسير من المواد الغذائية الأساسية.
ووفق إفادات شهود العيان، فإن عملية التوزيع تمت دون أي تدقيق، وبعد وقت قصير من استلام بعض الأشخاص للطرود الغذائية، تدافع الآلاف من المواطنين إلى مكان التوزيع وحدث تدافع وحالة من الفوضى أدت إلى انسحاب العاملين في نقطة التوزيع، وعلى الفور شرعت قوات الاحتلال التي تفرض سيطرتها على المنطقة في إطلاق نيران أسلحتها الرشاشة بشكل عشوائي ومباشر تجاه المواطنين، ما أدى إلى إصابة حوالي (50) مدنياً بجروح متفاوتة، نقلوا إلى مستشفى الصليب الأحمر الدولي الميداني لتلقي العلاج. وفي ساعات صباح اليوم التالي الأربعاء الموافق 28 مايو 2025، أعلنت المصادر الطبية عن وفاة أحد الجرحى، متأثراً بجراحه.
هذا وبالرغم من انتهاك آلية التوزيع لمعايير العمل الإنساني وفشلها الواضح، إلا أن قوات الاحتلال الاسرائيلي أعلنت مواصلتها العمل في ثلاثة نقاط للتوزيع جنوب ووسط قطاع غزة، دون أي اكتراث بالضحايا والظروف القاهرة التي تفرضها على الجوعى وخائري القوى بعد الظروف التي عايشوها من أكتوبر 2023.
ووفق معلومات مركز الميزان الميدانية، فإن قوات الاحتلال سمحت صباح يومي الأربعاء والخميس 28-29 مايو 2025، لأعداد من المواطنين بالوصول إلى نقاط ادعت بأنها نقاط للتوزيع في أماكن خطرة وغير مهيئة غرب مدينة رفح، وفي محور نيتساريم، وتركت كميات محدودة من الطرود الغذائية دون أي ضوابط ومعايير للآلاف من المواطنين الذين تمكنوا من الوصول إلى تلك النقاط، ما أدى إلى حدوث فوضى وتدافع في محاولة للحصول على الطرود الغذائية، وبقي الآلاف ممن تكبدوا معاناة الوصول للنقاط المعلنة لم يتمكنوا من الحصول على المساعدات.
وتوضح إفادة (ع، ا) البالغ من العمر 19 عاماً، أعزب، ويعيش مع أسرته المكونة من 8 أفراد، من بينهم 5 أطفال. ويقيم في منزل عائلته المتضرر بشكل بالغ في حي الأمل بمدينة خان يونس، واقع آلية توزيع المساعدات:
“عند حوالي الساعة 6:00 من صباح يوم الخميس الموافق 29/05/2025، توجهت برفقة والدي وعدد من سكان منطقتنا سيراً على الأقدام وكنا نهرول ونجري أحياناً خلال الطريق، إلى منطقة ميراج في مدينة رفح، حيث مركز توزيع المساعدات التابع للشركة الأمريكية، في محاولة للوصول باكراً والحصول على طرد غذائي من المساعدات، أثناء سيرنا إلى المركز الذي يبعد عنا حوالي 8 كيلومترات أو أكثر، شاهدت الآلاف من الناس في الطريق، متوجهين إلى نفس المكان، من بينهم أطفال ونساء وشيوخ من مختلف الفئات العمرية. كثيرون كانوا حفاة، يرتدون ملابس مهترئة، ووجوههم شاحبة من الجوع والتعب ... وبعد السير لأكثر من ساعة ونصف، اقتربنا من المركز، فشاهدت رافعتين تابعتين للجيش الإسرائيلي متمركزتين على محيط مركز التوزيع، إلى جانب ثلاث دبابات متمركزة على تلال رملية قريبة. كما شاهدت طائرات مسيرة تحوم في الجو، وأعداد كبيرة من الناس، تقدر بعشرات الآلاف، تتزاحم عند بوابة المركز. وعند حوالي الساعة 8:30 من صباح اليوم نفسه، فتح القائمون على مركز التوزيع البوابة، وبدأ الناس بالصراخ والتدافع الشديد … سمعت صوت إطلاق نار صادر من الدبابات، لكنني حاولت التقدم والدخول رغم الحشود الكبيرة. وبعد أكثر من ساعة من التدافع، استطعت الوصول إلى الممر المؤدي إلى ساحة التوزيع، وهو ممر ضيق لا يتجاوز عرضه متراً ونصف، هناك شعرت باختناق شديد نتيجة التدافع، وشاهدت أشخاصاً يسقطون على الأرض وتدوسهم أقدام الناس دون أن يتمكن أحد من إنقاذهم … وصلت إلى ساحة المركز، لم أجد شيئاً؛ فقد تم الاستيلاء على كل الطرود وسط الفوضى العارمة، ولم أتمكن من الحصول على أي شيء أعود به إلى أسرتي الجائعة، سوى كمية قليلة من السكر التقطتها عن الأرض وسط الفوضى، ووضعتها في جيبي وقررت العودة... في طريق عودتي، شاهدت سيدة تسقط على الأرض، عمرها بين 50 و60 عاماً. توجهت نحوها برفقة من كانوا معي، وقد بدا عليها الهزال والتعب، وكانت ترتجف من الجوع والخوف، وقالت بصوت خافت إنها مريضة بالسكري والضغط. أدركت أنها قد تعاني من هبوط في السكر، فأخرجت ما تبقى معي من السكر من جيبي وأعطيتها إياه لتتناوله كي تستعيد شيئاً من قوتها. تركتها وأكملت طريقي، وفي الطريق رأيت مجموعة من المواطنين المصابين ينزفون، وكان يجري نقلهم على عربات تجرها حيوانات، رأيت تقريباً سبعة مصابين، من بينهم عدد من الأطفال، وكان ثلاثة منهم بلا حراك. أحدهم كان ينزف من رقبته، وآخر من بطنه، ولا أعلم إلى متى سنظل نعيش في هذه المعاناة، والمجاعة، والفوضى…”
تظهر المعلومات الواردة في الإفادة وفي عشرات الإفادات التي جمعها باحثو المركز إلى انتهاك آلية توزيع المساعدات معايير العمل الإنساني وكونها أداة للتحكم والسيطرة وهندسة سكان القطاع جغرافياً وديمغرافياً من خلال تكريس التجويع وجعله أداة للتهجير القسري للفلسطينيين وهذا ما تعلنه دولة الاحتلال بأن استخدام هذه الآلية وعدم السماح بتدفق المساعدات سيدفع الفلسطينيين من سكان غزة وشمالها إلى النزوح نحو الجنوب. وتشير المعلومات الميدانية إلى عشرات المفقودين، الذين بدأت صفحات التواصل الاجتماعي تغص بنداءات لأسر تسأل عن مصير أبنائها الذين ذهبوا للحصول على المساعدات ولم يعودوا، هذا بالإضافة لعشرات الجرحى والقتلى.
مركز الميزان لحقوق الإنسان إذ يعبر عن استنكاره الشديد لاستمرار الإبادة الجماعية، وتكريس استخدام إسرائيل التجويع كسلاح بحق المدنيين الفلسطينيين من سكان قطاع غزة، فإنه يناشد المجتمع الدولي وكل صاحب ضمير إنساني حر، إلى التحرك الجاد والفعال لوقف الإبادة وإنهاء حصار غزة. ويشدد المركز على أن السماح بمرور إرساليات الغوث الإنساني هو واجب إنساني وأخلاقي وقانوني يقع على عاتق دول العالم كافة، ويجب ألا يخضع وصول الغوث لأي اعتبارات سياسية باستثناء معايير العمل الإنساني التي من شأنها حفظ حياة وكرامة المدنيين، ويجب أن يرفض الجميع ربط دخول الغوث بمفاوضات أو باشتراطات سياسية وإلا فإن العالم يسمح باستخدام التجويع كسبيل لتحقيق أهداف سياسية ويصبح الجميع شريك في هذه الجريمة.
كما يطالب المركز دول العالم قاطبة إلى دعم جهود الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة في أن تواصل دورها وتدخلاتها المنقذة للحياة في غزة، ورفض أي ادعاءات أو تشكيك في دورها لآنها ادعاءات كاذبة ليس لها ما يدعمها على الأرض.