الهجرة النظامية: هل توقف الهجرة غير النظامية؟ .. مقال د. أيمن زهري .. خبير السكان ودراسات الهجرة

0 208

الهجرة النظامية: هل توقف الهجرة غير النظامية؟

د. أيمن زُهْري
خبير السكان ودراسات الهجرة
القاهرة ٥ سبتمبر/أيلول ٢٠٢٥

لا تكاد قضية تثير الجدل في السياسات الأوروبية أكثر من قضية الهجرة، وخصوصًا الهجرة غير النظامية التي ارتبطت في المخيلة العامة بالمراكب الغارقة في البحر المتوسط، واختراق الحدود، والتحديات الأمنية. في مواجهة هذه الظاهرة، ارتفع صوت خطاب سياسي متكرر يقول إن الحل يكمن في فتح قنوات للهجرة النظامية، باعتبار أن وجود طرق شرعية للهجرة والعمل سيغني الشباب في أفريقيا والشرق الأوسط عن المخاطرة بأرواحهم. تبدو الفكرة جذابة ومنطقيّة للوهلة الأولى، فهي تقدم حلاً بسيطًا لمعضلة معقدة، لكن التمعن في الواقع الديموغرافي والاقتصادي والسياسي يكشف أن هذا الحل ليس سوى وهم، إذ إن فتح القنوات النظامية لا يمثل علاجًا جذريًا للهجرة غير النظامية، ولن يؤدي إلى وقفها، بل ستستمر الهجرة غير النظامية ما دامت العوامل الدافعة لها مستمرة.

لابد من الإقرار بداية بأن الهجرة النظامية لا تتاح للجميع وإلا تحولت الهجرة غير النظامية إلى هجرة نظامية تلقائيّا، الهجرة النظامية في كافة أنحاء العالم تُدار وفق سياسات انتقائية دقيقة، فالدول الأوروبية، رغم ما تواجهه من نقص في القوى العاملة بسبب تعمّر السكان (الشيخوخة)، لا تبحث عن أي مهاجر، وإنما عن مهاجر يتمتع بمهارات محددة تتوافق مع حاجات سوق العمل. ألمانيا، على سبيل المثال، تعلن عن نقص في مجالات التمريض وتكنولوجيا المعلومات والوظائف التقنية الدقيقة، لكن معظم الراغبين في الهجرة غير النظامية، خصوصًا من أفريقيا جنوب الصحراء أو من بعض دول الشرق الأوسط، يفتقرون إلى هذه المهارات أو لا يملكون شهادات معترفًا بها دولياً تؤهلهم لشغل هذه الوظائف.

خذ مثالًا على ذلك برنامج “البلو كارد” الأوروبي، الذي استُحدث عام 2009 بهدف جذب الكفاءات. بعد أكثر من عقد على تطبيقه، لم يحقق هذا البرنامج الأهداف المرجوة، لأن شروطه التعجيزية من عقود عمل ورواتب مرتفعة ومعادلة للشهادات حالت دون استفادة معظم الراغبين والمتقدمين. بينما بقيت أعداد المستفيدين محدودة للغاية، استمر تدفق المهاجرين غير النظاميين عبر المتوسط بأعداد كبيرة، ما يعني أن من يطرقون أبواب البحر ليسوا أنفسهم من يستوفون شروط مسارات الهجرة النظامية.

لفهم جوهر الظاهرة، لابد من النظر إلى المعادلة الديموغرافية بين الشمال والجنوب، إذ من المعروف أن أوروبا تشهد تحولًا ديموغرافيًا عميقًا حيث بلغ عدد سكانها نحو 449 مليون نسمة في مطلع 2024، لكن أكثر من 21.6% منهم تجاوزوا سن الخامسة والستين، كما أن العمر الوسيط للسكان بلغ 44.7 عامًا (هذا يعني أن نصف السكان تحت هذا العمر والنصف الآخر فوق هذا العمر). أضف إلى ذلك أن نسبة من هم فوق الثمانين تضاعفت خلال العقدين الماضيين لتصل إلى 6.1%، مما يفرض أعباءً هائلة على أنظمة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية لكبار السن. تشير التقديرات المستقبلية إلى إن الاتحاد الأوروبي قد يفقد 6% من سكانه بحلول العام 2100، وإذا توقفت الهجرة تمامًا قد يتراجع العدد بأكثر من الثلث.

في المقابل، بلغ عدد سكان أفريقيا نحو 1.55 مليار نسمة في 2025، أي ما يقارب من 17% من سكان العالم، بتركيبة سكانية يهيمن عليها الشباب حيث تقل أعمار أكثر من 60% عن الخامسة والعشرين. هذه الفجوة بين فائض الشباب في الجنوب وعجز الكبار في الشمال تبدو للوهلة الأولى تكاملية، لكن التعمق في التركيبة المهارية يكشف أن الفائض لا يتطابق مع العجز، فشباب أفريقيا في معظمهم محدودو التعليم والمهارة، بينما عجز أوروبا يتمثل في عمالة متوسطة وعالية المهارة. هكذا يفشل التوازن المفترض، وتبقى قنوات الهجرة النظامية عاجزة عن امتصاص الفائض الديموغرافي في الجنوب، كمّاً ونوعاً.

حتى إذا توافرت المهارات، فإن الثقافة والسياسة تلعبان دورًا حاسمًا في تحديد فرص الاندماج، فأوروبا اليوم تعيش صعودًا ملحوظًا لليمين المتطرف، الذي يُصوِّر المهاجرين على أنهم تهديد للهوية الوطنية والقيم الثقافية للمجتمعات الأوروبية. هذه التيارات تضغط على صناع القرار لتشديد شروط القبول وتقييد برامج الاستقدام.

الخلاصة أن الهجرة غير النظامية ليست مجرد غياب طرق ومسارات الهجرة النظامية فقط، بل هي انعكاس لقوة عوامل الطرد في الدول المرسلة بما في ذلك الفقر والبطالة والاضطرابات السياسية والحروب والنزاعات وانهيار الخدمات الأساسية. طالما بقيت هذه الظروف، سيظل ملايين الشباب يبحثون عن أي منفذ، حتى لو كان عبر قوارب الموت. تشير أرقام وكالة فرونتكس الأوروبية أن الأشهر الأربعة الأولى من 2025 شهدت أكثر من 47 ألف محاولة عبور غير نظامي نحو أوروبا، رغم كل الاتفاقيات الموقعة وبرامج التعاون القائمة بين أوروبا ومحيطها الإقليمي.

إن الحل الحقيقي لمشكلة الهجرة غير النظامية لا يكمن في إيهام الذات بأن فتح قنوات الهجرة النظامية سيقفل باب الهجرة غير النظامية. إن المطلوب هو الاستثمار في البشر داخل بلدان الجنوب من خلال التعليم النوعي والتدريب المهني اللذان يمثلان المقاربة الأمثل للاستثمار في رأس المال البشري في بلدان الجنوب، ولنا في التجربة الفلبينية خير مثال، حيث نجحت الفلبين عبر عقود في تخريج عمالة ماهرة مطلوبة عالميًا. إن الاستثمار المخطط في رأس المال البشري يمكنه أن يحوّل فائض السكان إلى مورد اقتصادي عالمي. للأسف، نجد أن معظم الدول الأفريقية فما زالت مصدراً للعمالة غير ماهرة التي لا تجد أمامها إلا الطرق غير الرسمية.

إلى جانب التعليم، فإن تعزيز البنية الاقتصادية المحلية يخلق فرص عمل تقلل من اندفاع الشباب نحو الهجرة بنوعيها، النظامية وغير النظامية. إن إصلاح السياسات التنموية لتستجيب لطموحات الشباب، ودعم ريادة الأعمال، وتوفير بيئة آمنة للاستثمار، كلها أدوات تجعل قرار البقاء خيارًا واقعيًا، وتجعل من يهاجر مؤهلًا لطرق الأبواب القانونية/النظامية والنجاح في أسواق العمل الدولية.

خلاصة القول إن فتح قنوات للهجرة النظامية قد يخفف بعض الضغوط، لكنه ليس الحل الجذري ولا يوقف الهجرة غير النظامية، لأن هذه الأخيرة هي عَرَض لخلل أعمق في النظام العالمي، خلل في توزيع عوائد التنمية وفي تكافؤ الفرص وفي الاعتراف المتبادل بالكفاءات، لذلك فإنه ما لم جَسر الفجوة بين فائض الجنوب وعجز الشمال عبر استثمار حقيقي في البشر، ستظل قوارب الموت تبحر، ويظل سماسرة تهريب المهاجرين يمارسون عملهم كالمعتاد.

 

https://www.facebook.com/share/1DCqoz44Tc/

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد