ورقة موقف …. المجتمع الدولي يفشل مجدداً ….. العرب يدفعون ثمن الإرهاب مرتين
القاهرة في 18 نوفمبر/تشرين ثان 2015
تتابع المنظمة العربية لحقوق الإنسان بعميق القلق التدابير الدولية المتخذة لمكافحة الإرهاب في أعقاب تداعيات الاعتداءات الإرهابية على العاصمة الفرنسية باريس مساء 13 نوفمبر/تشرين ثان الجاري، والتي وقع العرب والمسلمون في المهجر الغربي ضحية للاعتداءات ذات الطابع العنصري مجدداً، فضلاً عن بدء سلسلة من ردود الفعل والاستغلال المريع لتداعيات الكارثة في اعتداءات متفرقة في المنطقة العربية، وهي الاعتداءات التي يُتوقع أن تتزايد في الفترة المقبلة.
أوروبا
ففي أعقاب الهجمات المأساوية في باريس، وقعت سلسلة من الاعتداءات على مساجد ومخيمات نازحين في عدة بلدان أوروبية تضم جنسيات عربية ومسلمين، كما جرى توقيف العشرات على أساس الاشتباه، وبات المواطنين والمقيمين واللاجئين من أصول عربية وغيرهم من المسلمين يقبعون في حالة ذعر ومخاوف من مخاطر متنوعة، ولا يبدو أن هذه الظاهرة ستتراجع خلال الأيام المقبلة، بعد أن عادت ظاهرة التعميم بحق المسلمين ووصمهم بالإرهاب.
طالبو اللجوء
وعقب الأحداث، تواترت التصريحات إزاء الموقف من طالبي اللجوء الفارين من جحيم بلدانهم، والذين يشكل العرب وتحديداً الفارين السوريين الجانب الأعظم منهم خلال العامين الأخيرين، وعلى نحو يدعو لمراجعة التقدم الضئيل المحرز تجاه أوضاعهم ونسب توزيعهم بين بلدان الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تستوعب سوى بضعة آلاف من طالبي اللجوء السوريين خلال السنوات الثلاث الأخيرة من بين نحو أربعة ملايين لاجيء سوري، فقد أعلنت 15 ولاية أمريكية يوم أمس رفضها استقبال طالبي اللجوء في ضوء تزايد المزاعم غير الدقيقة عن احتمالات تورطهم في أنشطة إرهابية لتتم معاقبتهم مرتين.
فلسطين
اعتادت سلطة الاحتلال الإسرائيلية أن تكثف من ممارسات “إرهاب الدولة” بحق الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر في خضم الأزمات العالمية.
وخلال الساعات الـ24 الماضية، واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي جرائمها بحق المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسيما ظاهرة القتل خارج القانون وعلى أساس الشبهة في كل من الضفة الغربية ومدينة القدس العربية المحتلة، وسقط قرابة 80 فلسطينياً خلالها، نصفهم على أساس الاشتباه.
واغتناماً للأجواء العالمية التي تبث الخوف والكراهية ضد الإسلام، فقد توسعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في انتهاكاتها الجسيمة بتجاه فلسطينيي الـ1948 (الذين يُفترض أنهم مواطنيها) يوم أمس لتفرض حظراً على الحركة الإسلامية التي تحملت العبء الأساسي في الدفاع عن المقدسات الدينية المتنوعة في القدس المحتلة، قبل أن تتوسع مجدداً في تنفيذ سلسلة من الغارات الجوية على قطاع غزة على نحو يهدد بإشعال فتيل جولة عدوان جديدة على القطاع وسكانه، بعد أربعة جولات عدوان القطاع المحاصر في تسع سنوات قتلت خلالها نحو خمسة آلاف من سكانه، بينهم أكثر من أربعة آلاف من المدنيين، وجرحت نحو 30 ألفاً، ودمرت منشأت البنية الأساسية أكثر من 60 ألف منزل سكني.
سوريا
لطالما عانى المدنيون السوريون من الانتهاكات الجسيمة مزدوجة المصدر من جانب نظام الحكم الديكتاتوري ومن جانب الجماعات المسلحة التي اختطفت الثورة وتغطت بها العديد من الجماعات الإرهابية والمسلحين الأجانب، وخاصة منذ نهاية العام 2011.
وطورت القوات الروسية عملياتها في سوريا التي يُتوقع أن تتكثف بعد إعلان موسكو أن الطائرة المنكوبة في مصر سقطت نتيجة عمل إرهابي، وتترافق الغارات مع تكثيف الغارات الفرنسية في سياق “الحرب على الإرهاب” وخاصة تنظيم “داعش” الإرهابي المسئول عن الغالبية الساحقة من الجرائم الإرهابية في بلدان المنطقة العربية خلال الثمانية عشر شهراً الأخيرة.
وفضلاً عن المعلومات بشأن تساقط المئات من المدنيين السوريين خلال الغارات الروسية وكذا خلال غارات التحالف الدولي خلال الأشهر الأخيرة، فمن المتوقع أن يسفر تكثيف الضربات عن تفاقم الضحايا من المدنيين ومفاقمة معاناتهم.
يُذكر أن تنظيم “داعش” الإرهابي يسيطر على مساحات واسعة من سوريا والعراق، ويفرض نظام تجنيد إجباري على الأطفال (بين 12 و17 عاماً) في المناطق التي يسيطر عليها فيما يسميه “مدارس الأشبال” التي تضمها معسكرات التدريب التابعة له، ورغما عن أنف ذويهم الذين قد يتعرضوا لقطع الرؤوس حال معارضتهم ذلك.
وتعرض المئات من هؤلاء الأطفال للقتل خلال القصف الدولي لمواقع “داعش”، وبصفة خاصة في سوريا.
العراق
تتعرض العاصمة بغداد والمدن العراقية بصفة شبه يومية لعمليات تفجير إرهابية تطال المدنيين الأبرياء، وهي عمليات لطالما استهدفت تأجيج الثأر المذهبي والطائفي والعرقي، والقضاء على فرص وحدة حقيقة للبلاد مستقبلاً.
وبرغم خطط الإصلاح والضبط التي اتخذتها، فلا تزال الحكومة العراقية غير قادرة على الاستغناء عن خدمات ميليشيا “الحشد الشعبي” ذات التشكيل المذهبي الشيعي والمدعومة بميليشيات الحرس الثوري الإيراني في مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي.
وتُوثق مصادر المنظمة العشرات من الحالات التي تورطت فيها هذه الميليشيات في جرائم كبرى بحق المواطنين العراقيين السنة خلال عملياتها، على نحو ما جرى في تكريت والرمادي.
جماعات الإرهاب وتطور الأنماط
وينشب الإرهاب مخالبه في كل من ليبيا واليمن حيث تتوسع التنظيمات الإرهابية في السيطرة على مساحات من الأراضي، ويعمل على تكثيف نشاطه ومحاولة انتزاع مساحات من الأراضي في كل من مصر ولبنان وتونس والجزائر على نحو يهدف لخلق واقع “نزاع مسلح داخلي” يوفر له الاستمرارية، فضلاً عن عملياته المتكررة في كل من السعودية والكويت والبحرين.
وتعمل جماعات الإرهاب وفق أنماط جديدة كليا، تستهدف تأجيج الاضطرابات الأهلية والانقسامات السياسية وإشعال نزاعات مسلحة على نحو يمكنها من التوغل في تلك البلدان وتقويض بنى الدولة، وإضفاء مشروعية زائفة على أنشطته المتنوعة باعتباره مدافعاً عن الناس، بما في ذلك الإساءة لخطاب حقوق الإنسان عبر محاولات تسيسه.
وعاشت المنطقة العربية أحداثاً مفزعة على نحو متزايد خلال السنوات الثلاث الأخيرة في سياق محاولات الإرهاب خلف الفوضى واغتنام السيولة التي لفت المراحل الانتقالية في بلدان الثورات الشعبية.
ففضلاً عن الاعتداءات المسلحة والتفجيرات ذات الطابع العشوائي، نفذت التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم “داعش” مشاهد إعدام بشعة شملت الذبح وقطع الرؤوس وتفجير الأحياء والحرق والإغراق، فضلاً عن التمثيل بالجثامين، وهي سبل تستهدف إثارة الذعر والخوف بين الناس لإخضاع المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
كما عملت الجماعات الإرهابية على ضرب منشأت البنى الأساسية على نحو يؤدي لفشل الدولة على الوفاء بالتزامتها بتوفير الخدمات وحماية المرافق العامة، وكذا لمعاقبة الناس الرافضين لهم ولأفكارهم وجرائمهم.
مؤتمر دربان
وخلال دورها القيادي في التحضير وتسيير أعمال المؤتمر العالمي الثالث لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب” (دربان/جنوب أفريقيا – سبتمبر/أيلول 2001)، عملت المنظمة على مواجهة ازدواجية المعايير الدولية تجاه الحقوق العربية، وعلى تأكيد الحق في المقاومة المشروعة للاحتلال والعدوان الأجنبي، والفصل بين المقاومة والإرهاب.
كما عملت على التصدي لظاهرة كراهية الأجانب، وسيما أنواعها المحدثة كظاهرة “الخوف من الإسلام” (الإسلاموفوبيا)، ودعت إلى مواجهة جادة وعلمية لخطاب الكراهية بتنوعاته الثقافية والدينية والعرقية، ومن ضمنها وقف لإساءة للأديان وحظر التحريض على الكراهية والعداوة والتعصب.
ورغم تبني المؤتمر العالمي لهذه الثوابت الأساسية، إلا أن القوى الدولية الرئيسية لم تتبنى توصياته، بل وعلى العكس، تورطت في ارتكاب أسوأ الانتهاكات لحقوق الإنسان في العصر الحديث بعد أحداث “11 سبتمبر” التي تلت المؤتمر، والتي استغلت لتعميم وصم العرب والمسلمين بالإرهاب، في وقت جرى فيه تجاهل إرهاب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والإمتناع عن وصف الفظائع التي جرت ضد المسلمين في الجغرافيا الغربية بالإرهاب (يوغوسلافيا السابقة – أوكلاهوما الأمريكية).
خطة عمل الرباط
واتصالاً بمؤتمر دربان 2001 ومؤتمر مراجعة دربان 2009، أنجز مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان “خطة عمل الرباط” 2012 لمنع الكراهية والعدواة والتعصب ونشر التسامح بعد سلسلة من الحوارات في مختلف مناطق العالم استغرقت نحو عامين. وهي الخطة التي تبناها مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان في اجتماعه الدوري السنوي (مايو/آيار 2013).
واتصالاً بذلك، تأسس في المنطقة العربية “التحالف المدني لمكافحة التحريض على الكراهية ونشر التسامح” في أبريل/نيسان 2015 (تونس)، وتتطلع المنظمة لتفعيل رؤيتها التي قدمتها خلال العام 2014 للمفوضية السامية لحقوق الإنسان لجمع الفاعلين المعنيين من المجتمع المدني وممثلي الثقافة والإعلام والمؤسسات الدينية للتسريع بوضع آليات تنفيذية لتفعيل الخطة.
نداء الجمعية العمومية التاسعة للمنظمة
وكانت الجمعية العمومية التاسعة للمنظمة (يناير/كانون ثان 2015) قد أدانت الاعتداء الإرهابي على جريدة “شارلي ÷يبيدو” في باريس، وأصدرت النداء التالي:
“.. عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ..”
الإنسانية تستحق منا أفضل من ذلك
عانت الأسرة البشرية ،، ولا تزال ،، من ويلات كبرى بسبب النعرات العنصرية والدعوات إلى الكراهية القومية والدينية التي تشكل حطاً من الكرامة الإنسانية المتأصلة في بني البشر.
ولقد جاء ميلاد نظام الأمم المتحدة (1945) وبزوغ القانون الدولي لحقوق الإنسان (منذ 1948) وتطوره استجابة لمعالجة هذه الظاهرات المؤسفة، والتي لا تزال تتفاقم حتى اليوم، ومن بين أخطرها ظاهرة الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام وكراهيته)، والتي يغذيها تكرار الإساءة للرموز الدينية ومقدسات المسلمين التي تشمل احترام وتبجيل مختلف الديانات السماوية (اليهودية – المسيحية – الإسلام)، وعدم الاعتداء -بالقول أو الفعل أو كليهما- على الأديان والمعتقدات الروحية الأخرى.
ليس في هذا النداء ما يكرس القبول بالإرهاب وأي من صيغ العنف المادية أو اللفظية، وليس فيه أيضاً ما يقود إلى تبرير أي من هذه الصيغ، بل على العكس، فإننا نؤكد على إدانة واستنكار كافة الأفعال والأقوال التي تندرج في هذا الإطار، وبينها الاعتداءات الإرهابية الأخيرة على صحفيي جريدة “تشارلي إيبيدو” على يد التنظيمات الإرهابية التي تنال كذلك من الإنسان العربي والمسلم في مناطق أخرى، وتهدد حياة المئات من رجال السياسة والفكر والأدب والصحافة في – عرباً ومسلمين – البلدان العربية والإسلامية، والتي تشكل خروقات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ونحث على تعاون دولي مخلص لمكافحة واجتثاث الإرهاب ووقف العنف أياً كانت منابعه وأسبابه.
ونعتقد أنه ربما كان للمعاناة التي تأن بسببها أغلبية شعوب الدول المسماة بـ”الإسلامية” (56 دولة) سواء لناحية تعرض العديد منها للعدوان والاحتلال الأجنبي والهيمنة على مواردهم الاقتصادية ودعم نظم حكمهم الاستبدادية، جنباً إلى جنب مع شيوع الفقر والجهل والأوبئة، وتفشي التطرف والعنف والإرهاب، ربما كان كل ذلك سبباً في الاستخفاف بمنظومتهم القيمية ومثلهم، وبالتالي الاستخفاف بنداءاتهم لوقف الإساءة لرموزهم الدينية.
وإذ نُعد هذا الاستخفاف بدوره شكلاً من أشكال مواجهة التطرف بالتطرف، فإننا نُوقن بأنه يصب في مصلحة المتطرفين والإرهابيين، كما نُوقن بأن الحماية التشريعية والقضائية في حماية بعض الأفكار والمعتقدات والحقائق التاريخية دون غيرها يعد تمييزاً غير مقبول، ويمنح المتطرفين -أياً كانت انتماءاتهم الحضارية والثقافية أدوات إضافية لتبرير جرائمهم والتأثير في الرأي العام.
إننا نقف جميعاً صفاً واحداً في مساندة حرية الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد، بما في ذلك صور التعبير الخشنة، ونعمل معاً من أجل “جو من الحرية أفسح”، وكذلك نقف جميعاً في مواجهة كافة أشكال الإساءة للمعتقدات الروحية لأتباع كافة الديانات السماوية وغير السماوية، ونحث على تبني وإعمال معايير الأمم المتحدة ذات الصلة، وفي مقدمتها “خطة عمل الرباط بشأن حظر الدعوة إلى الكراهية العنصرية أو القومية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف” الصادرة في أكتوبر/تشرين أول (http://www.ohchr.org/AR/NewsEvents/Pages/TheRabatPlanofAction.aspx) والتي نتشارك حالياً من غيرنا من مؤسسات المجتمع المدني العربي العاملة على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية من أجل السهر على إنفاذها.
إننا نؤمن أننا كأسرة إنسانية واحدة نستحق أفضل من ذلك، وسنواصل من دون كلل الجهود والعمل لتحقيق هذه الغاية في نبذ كافة صور الحض على الكراهية والتمييز والتعصب.
* * *