مقال.. د.نيڤين مسعد حول
جريدة الأهرام ١٣ مارس ٢٠٢١
علي مدار نحو أربعة أيام قدّم العراق للعالم صورة مشرّفة تليق بحضارته العريقة التي تضرب في عمق التاريخ ، فكل محطة من المحطات التي توقف بها البابا فرانسيس بابا الفاتيكان لها بصمة علي تاريخ المنطقة والعالم ، من بغداد مقر الخلافة العباسية ، إلي النجف الأشرف حيث ضريح الإمام علّي بن أبي طالب ، إلي أور التي انطلق منها سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء ، إلي قرة قوش بيت الآلهة سنوات طويلة قبل الميلاد . وفي كل تلك المحطات كان تنوع العراق حاضرًا بمسلميه ومسيحييه وصابئته وأيزيدييه، وممثلًا بعربه وأكراده وآشورييه ، وهذا جزء أصيل من خصوصية الشعب العراقي . في تحليل هذه الزيارة قيل كلام كثير عن تسليطها الضوء علي مسيحيي العراق الذين كانوا هم و الأيزيديون من أشد العراقيين معاناة من ويلات الإرهاب ، وبدا مشهد القدّاس الذي أقامه البابا فرانسيس ، في ساحة حوش البيعة بالموصل قرب الأطلال الكنسية ، غنيًا عن أي تعليق . لكن بالتأكيد فإن المحطة الأهم في زيارة الحَبَر الأعظم للعراق كانت هي محطة النجف ولقاؤه مع المرجع الأعلي للشيعة السيد علي السيستاني ، فبالنسبة لكثيرين من خارج العراق اقترن التشيع في أذهانهم بإيران وارتبطت المرجعية الشيعية العليا بآية الله علي خامنئي ، ولعلها المرة الأولي التي يدرك فيها هؤلاء محورية دور حوزة النجف في المذهب الشيعي ، وأن التشيع انتقل من العراق لإيران وليس العكس . هذا التطور المهم حمل البعض علي القول إن زيارة البابا للنجف جعلت منها مركز التشيع في العالم مايعني أنها سحبت البساط من حوزة قم . وساعد علي شيوع هذه الفكرة /الأمنية أنه بعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية الإيرانية التي رحبّت بالزيارة ، تعامل الإعلام الإيراني مع زيارة البابا ببعض التحفظ ، بل وتخلي بعض الصحف عن هذا التحفظ أحيانًا حتي أن صحيفة “جماران ” الإيرانية علّقت علي الزيارة بما نصه “نحن لا نشعر بالغيرة من زيارة البابا فرانسيس للنجف …نحن مَن زرع البذرة ونحن مَن عرّف الشيعة للفاتيكان ، والفاتيكان سعي في أكثر من مناسبة لزيارة إيران ” . والنص الأخير الذي تنسِب فيه إيران لنفسها فضل زيارة البابا للعراق إنما يذكّرني بقول خامنئي في عام ٢٠١١ إن المصريين نقلوا عن إيران ثورتها الإسلامية ، وهذا جزء من الاستعلاء الفارسي في التعامل مع العرب شيعةً وسنةً . علي أية حال ، أدت الزيارة إلي تعزيز الوضع الدولي لمرجعية النجف و هذا واضح ، أما أن النجف تحولت بسبب هذه الزيارة إلي مركز التشيع في العالم فتلك مسألة فيها نظر .
لم تكن قضية المرجعية وحدها هي القضية التي دار من حولها النقاش سواء أثناء الزيارة أو بعدها ، فهناك علي الأقل ثلاث قضايا أخري كانت محل نقاش واسع . القضية الأولي تتعلق بتكييف زيارة البابا ، وفِي هذا السياق برز اتجاه في التحليل يجرد الزيارة من أي أبعاد سياسية ويعتبرها زيارة روحية خالصة تهدف لبث قيم التسامح والسلام والعيش المشترك بين البشر ، وهذا كلام يحتاج إلي الرد عليه ، فكل قيمة من القيم المذكورة لها مدلولات سياسية ترتبط باحترام التعددية بمعناها الواسع ووقف الصراعات الأهلية وحصر السلاح بيد الدولة ، وقد دعا البابا بالفعل الحكومة العراقية إلي حسن الأداء ومقاومة الفساد ووقف العنف ، ومن جانبه نُقل عن السيستاني أنه اشتكي للبابا من الطبقة السياسية العراقية ، فأين هو الحد الفاصل بين السياسي والديني في هذه الحالة ؟ . القضية الثانية ترتبط بتأويل الصلاة التي أقامها البابا في مدينة أور ، وهي الصلاة التي ركّزت علي الجذر الإبراهيمي المشترك للديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام . وفِي هذا التأويل ذهب البعض إلي اعتبار أن القدّاس البابوي في أور جاء ليمثّل ترويجًا “للسلام الإبراهيمي” ومقدمةً لتطبيع العلاقات بين العراق وإسرائيل . وبصفة شخصية فإنني أتفهم منطق هذا التحليل علي ضوء توظيف فكرة التشارك في الأصل الإبراهيمي بين الديانات الثلاث من أجل تطبيع العلاقات العربية -الإسرائيلية .لكن الموضوعية تقتضي القول إن البابا منذ بداياته الأولي في عام ٢٠١٣ وهو يركز علي فكرة الجمع بين الديانات الثلاث تحت المظلة الإبراهيمية وسبق له طرحها في العديد من زياراته الخارجية ، ومن حيث المبدأ فإنه لا توجد مشكلة في التعايش الديني “لكم دينكم ولي دين” ، إنما المشكلة الأساسية تتعلق بالصهيونية ومشروعها الاستيطاني التوسعي .القضية الثالثة تدور حول خلو برنامج البابا من زيارة المرجعية السنية في العراق ، وفِي هذا الاتجاه ذهب البعض للقول إن مرجعية السنة في العراق لا تقل عن مرجعية الأزهر الشريف ولا يجوز إسقاطها من برنامج الزيارة . وواقع الحال أن المرجعية السنية في العراق موزعة علي عددٍ من الجهات ، فهناك المجمع الفقهي وديوان الوقف السني وهيئة علماء المسلمين ، مايعني أن الأمر ليس بنفس الوضوح الذي عليه الحال مع المرجعية الشيعية في العراق ، ولعل تلك مناسبة لدعوة السنة العراقيين إن أرادوا أن تكون لهم قوة روحية وازنة أن يتفقوا فيما بينهم علي من يمثلهم في الداخل والخارج علي حدٍ سواء .وبالمناسبة لقد انتقد بعض الشيعة عدم زيارة البابا ضريح الإمام علّي أثناء وجوده في مدينة النجف ، مايعني أن كل فريق لديه مآخذه علي برنامج الزيارة من منظوره الخاص.
كلمة أخيرة تتعلق بتخصيص رئيس الوزراء مصطفي الكاظمي ٦ مارس يومًا وطنيًا للتسامح والتعايش في العراق احتفالًا بالتلاقي الكاثوليكي – الشيعي ، والسؤال الذي يراودني هو : متي يحدث التلاقي السنى – الشيعي علي المستوي العربي ويكون هناك يوم وطني للاحتفال به ؟
السابق بوست