“ندوة” دور الثورات العربية في تعزيز دولة الحقوق والحريات
دورية متخصصة في الشئون الدولية تصدر عن مؤسسة الأهرام
الاربعاء 7 أكتوبر 2015
بقلم: أميرة البربري – باحثة ماجستير بكلية الإعلام، جامعة القاهرة
على الرغم مما أسهمت به الثورات العربية في فتح الباب أمام آمال شعوب المنطقة في إحداث عملية تغيير حقيقي، وانتقال ديمقراطي ينهي حكم الفرد، وشخصنة النظام السياسي، ومظاهر القمع والاستبداد، ليبدأ عصر جديد تُحترم فيه الحقوق والحريات الأساسية للفرد، استنادًا إلى قيم المواطنة والديمقراطية، فإن تداعيات هذه الثورات، وما نتج عنها من موجات عنف نالت من وحدة الدولة الوطنية والأمن القومي للعديد من دول المنطقة تطرح إشكالية كبيرة حول كيفية تحقيق التوازن بين حماية الدولة لوحدتها وأمنها القومي، وحق المواطن فى حرياته الأساسية المقدسة دون الإخلال بالكرامة للفرد واستقرار الدولة.
في هذا الإطار، عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان ندوة إقليمية بعنوان “دولة الحقوق”، استهدفت مناقشة وفحص السياقات الجديدة في كل من تونس، والمغرب، ومصر، في إطار المعطيات الدستورية الجديدة بهذه الدول، وما يمكن أن تتيحه هذه المتغيرات الدستورية من بيئة جديدة لحقوق الإنسان، والحريات العامة، والتنمية الإنسانية.
ترأس أعمال الندوة الأستاذ محمد فائق، رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، بمشاركة الدكتور حسام عيسى، نائب رئيس الوزراء الأسبق، والأستاذ إدريس اليازمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب، والدكتور الهادي اليازمي، رئيس لجنة حقوق الإنسان العربية بجامعة الدول العربية، والأستاذ راجي الصوراني، رئيس مجلس أمناء المنظمة، والأستاذ علاء شلبي، الأمين العام للمنظمة، والعديد من مؤسسات المجتمع المدني من 13 بلدا عربيا.
موقع المنطقة العربية من دولة الحقوق والحريات:
في افتتاح أعمال الندوة الإقليمية، أعرب راجي الصوراني، رئيس مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان، عن امتنانه للدور البارز لحركة حقوق الإنسان العربية، خلال ثلاثة عقود، تكبدت خلالها الكثير من التقييد والأضرار، وأسفرت عن العديد من الضحايا. وأكد أنه بعد مرور أربع سنوات على الربيع العربي، لم تأت الأمور كما كنا نرغب، قائلًا إن علينا الآن أن نعمل بشجاعة، وألا ندع ما يحدث في السودان، أو سوريا، أو اليمن يحبطنا، ويُدخل في نفوسنا اليأس، أو نتخلي عن مبادئنا، بل يحفزنا أكثر لحماية حقوق الإنسان، وترسيخ دولة القانون والحريات.
من جانبه، أشار محمد فائق، رئيس الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، إلى أن الوطن العربي يشهد حالة من الفوضى والمعاناة التى وصلت إلى حد لم تشهده المنطقة من قبل. ولفت إلى أنه عندما يكون موضوع الاجتماع “دولة الحقوق والحريات”، فإن الأمر يحتاج إلى التأمل بعمق فى أحوال المنطقة العربية، وما جرى، ولا يزال يجري فيها، للوقوف على أسباب التردى الذى نشهده، وهل تسير المنطقة فى دولة الحق والقانون، أم لا؟، وما العقبات التى تقف في سبيل ذلك؟، مع تلمس طريق الخروج من حالة الاضطراب التى تسود الوطن العربي.
وقال فائق إن معظم ما نحن فيه من ترد هو من صنعنا نحن كعرب، وإن كل ما يفعله أعداؤنا هو دفعنا للسير فى الطريق الخطأ الذي نصنعه نحن بأنفسنا، مستشهدًا بقول لـ “بن جوريون”، عندما كان رئيسا لوزراء إسرائيل، مفاده: :”إن أخطر الدول على إسرائيل هى مصر، وسوريا، والعراق، وإن أمن إسرائيل يستوجب تفكيك هذه الدول. وعندما سأله سائل: ماذا ستفعلون لتحقيق ذلك، أجاب: لن نفعل شيئًا، سنعتمد على غباء هؤلاء”. ويرى فائق أن هذا ما حدث بالفعل، ولا يزال يحدث حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
ودلل فائق على وجهة نظره بالوضع في سوريا التي قامت بها ثورة وطنية ضد القمع والقهر، ولكنها تحولت بما أُدخل من سلاح ومقاتلين أجانب إلى حرب أهلية بالوكالة. وتساءل:: من استدعى هؤلاء؟، ومن سمح لهم بذلك؟. وأوضح أن الإجابة هي أننا نحن فعلنا ذلك، وتحمس له البعض منا. وأضاف أن الذي صنع “داعش”، والنصرة، وقبلهما القاعدة، أعداء هذه الأمة الذين نعرفهم، والآن يحاربونها، بعد أن تجاوزت حدود ما رُسم لها. وفى ليبيا، حدث الشىء نفسه، فالليبيون هم الذين استدعوا قوات الناتو، ومن قبلها العراق، وقبلها مؤامرة الصمت على الصومال، وغيرها وغيرها.
وأوصى رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان بأنه لا يجوز أن نضع أنفسنا فى موضع الاختيار بين القمع والقهر، وبين التدخل الخارجي، مؤكدًا أنه ضد الاثنين، وأن الثورة لها تكلفتها، ولابد للثوار أن يكونوا قادرين على دفع هذه التكلفة وطنيًا، منبهًا إلى أن هذا ما حدث فى تونس، ومصر. ومن أجل ذلك، نجحت الثورتان رغم التكلفة العالية.
وعلى صعيد آخر، ذكر فائق أن القضية الثانية التى تقف عقبة فى وجه دولة الحقوق والحريات هى الاٍرهاب والعنف الممنهج الذى يقوم به تنظيم الإخوان المسلمين فى مصر، متزامنًا ومتحالفًا مع الاٍرهاب، وهو فى ذلك يصبح جزءًا منه. وقال: “علينا أن ندرك أن الاٍرهاب عندما يضرب دولة عربية معينة، فهو لا يقصدها وحدها، وإنما يقصد الأمة العربية كلها، كما أنه يخطط لخلق بؤر عالمية ينطلق منها فى المنطقة وفى القارة الإفريقية”. وأوضح أن ما استهدفه الاٍرهاب فى سيناء له مثيله فى شمال مالي، وجنوب الجزائر، وبوكوحرام فى شمال نيجيريا، والتنظيم الشبابي فى الصومال، وأن كل هذه التنظيمات ليست بعيدة عن تنظيم القاعدة، وتنظيمات عديدة أخرى تعمل كلها فى مخطط واحد للسيطرة على هذه المنطقة، مستخدمة الدين بغير ما جاء به صحيح الإسلام، كما تستغل الأمية، والفقر، والجهل الذى تغرق فيه نسبة كبيرة من شعوب المنطقة. ووجه حديثه للذين يساعدون هذه التنظيمات أن يدركوا أنهم واهمون، وأن الاٍرهاب سوف يرتد إليهم لا محالة، كما حدث لتنظيم القاعدة، الذى أُنشئ لمحاربة الاتحاد السوفيتي، فارتد إليهم فى هجمات سبتمبر الشهيرة.
ودعا فائق العرب جميعًا إلى التوحد فى محاربة الاٍرهاب، كما دعا المجتمع الدولى، ممثلًا فى الأمم المتحدة، إلى وضع خطة عالمية لمحاربة الاٍرهاب، أينما كان، على أساس أن الإرهاب يمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وللإنسانية كلها، مع ضرورة إدراك أن الأمن وحقوق الإنسان قيمتان متكاملتان، ولا تتعارضان، فلا أمن بدون حقوق إنسان، والعكس صحيح، والأمن لا يكتمل إلا بأمن الدولة، والأمن الإنساني. وأكد أن السؤال الملح حاليًا هو: هل وضعنا الربيع العربى على الطريق لدولة الحقوق والحريات، أم أنه كان سببًا فى الانفلات الذى نشهده فى كثير من دولنا؟.
مسار حركة حقوق الإنسان في العالم العربي:
وحول تطور مسار حقوق الإنسان في العالم العربي، أعرب إدريس اليازمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان بالمغرب، عن أن الحركة الحقوقية العربية تعمل في صلب الحراك الشعبي العربي لأكثر من ثلاثة عقود، وتميزت مساراتها بالصبر، والمثابرة طوال ثلاثة عقود، إلا أن حصيلة هذه المسارات لا تزال متباينة، نظرًا لوجود وجوه غائبة، إما لأنها في السجون والمعتقلات، أو في المنفى، أو استشهدت جراء عملها لحماية حقوق الإنسان. وأكد أن حركة حقوق الإنسان قد نجحت،رغم هذه الصعوبات في إفراز ضرورات مهمة وحتمية، هي الحرية، والمساواة، وحماية الحقوق، وصيانة الكرامة، كما نجحت أيضًا في تنمية الوعي، والإقرار الرسمي بحقوق الإنسان.
وفي كلمته، أثنى الدكتور حسام عيسى، نائب رئيس الوزاراء الأسبق، على موضوع الندوة وأهميته للعالم العربي، خلال الفترة الراهنة، موضحًا ضرورة إدراك عدد من النقاط الأساسية، أهمها:
إن كل الحقوق يمكن أن يرد عليها قيد. ولكن إذا بلغ القيد على الحق الدرجة التي تجعل من الحق مستحيلًا، فالقيد باطل، فلا يمكن أن يصل القيد إلى حد المنع.
حق الدولة في تأمين أمنها القومي أمر بالغ الأهمية، كما أن حق المواطن في الحرية والحفاظ على حياته مقدس وبالغ الأهمية أيضًا.
إن التقييد عمومًا يأتي من فكرة الأمن القومي. وإذا كنا قد قبلنا قانون التظاهر في مصر لتقنين وتنظيم هذا الحق، فإنه وصل الآن إلى منع الحق في الأساس، لذا يجب إعادة النظر في هذا القانون، لأنه يعطل الحق ويمنعه.
وأشار عيسى إلى أن القضية الشائكة التى تعيشها مصر حاليًا هى العلاقة بين حق الدولة فى تأمين أمنها القومى بالغ الأهمية، وحق المواطن فى حرياته الأساسية المقدسة، دون الإخلال بالكرامة للفرد واستقرار الدولة، مشددًا على أن احترام حقوق الإنسان هو أمر بالغ الأهمية. وفى الوقت ذاته، يمكن أن تُستخدم لتلعب دورًا تفكيكيا للدول، لافتًا إلى أن الغرب يستخدم حقوق الإنسان، ليس من أجل إعلاء قيمها، ولكن من أجل تفكيك الدول، وتحقيق طموحاتهم الاستعمارية.
تقييم تجربة الدول العربية في مجال حقوق الإنسان:
بدأ عاصم ربابعة، ممثل لجنة حقوق الإنسان العربية، كلمته بتشخيص للحالة التي يمر بها العالم العربي حاليًا، واصفًا إياهها بأننا نقف حاليًاعلى مفترق طرق تحيط به المخاطر والتداعيات من كل جانب، وتتنازعه التيارات والتفاعلات المتناقضة، شأنه في ذلك شأن كل التحولات التاريخية المهمة. وأكد أنه من الواجب على كل الدول العربية أن تقف وقفة مع النفس للتأمل في المشهد الراهن، وفهم السياقات والمنعطفات التى تمر بها، ومحاولة تقييم المسارات، وتقويمها.
وأشار ربابعة إلى أن تجربة الدولة العربية الحديثة، خلال العقود الماضية، تشير إلى أنها لم تنجح في ترسيخ حقوق الإنسان بشكل عام، وقيم المواطنة بشكل خاص، بوصفهما مصدر السلطة وشرعيتها، حتى إن تقارير التنمية الإنسانية العربية أطلقت على الدولة العربية الحديثة اسم “دولة الثقب الأسود”، في تعبير صريح عن حالة الفشل في بناء الدولة بمفهومها ووظيفتها الحديثين. وقد عزت هذه التقارير ذلك إلى أسباب متنوعة، في مقدمتها غياب العقد الاجتماعي، وتهميش فكرة الإرادة العامة الحرة لأعضاء المجتمع، واستئثار القوى الحاكمة بالسلطة. وأوضح دور أساليب تنشئة الأفراد وعمليات نشر المعرفة في تكريس هذا الوضع، لما تسهم به من إعادة إنتاج القيم السياسية والاجتماعية التي تعيق بناء دولة الحقوق بمفهومها المعاصر، وتكرس ثقافة الخضوع، والطاعة، والتبعية، ولا تشجع الفكر النقدي الحر الذي يحفز على نقد المسلمات السياسية أو الاجتماعية.
وأوضح أنه في ظل هذه الظروف، كان من الطبيعي ألا تتمكن ثورات الربيع العربي من إحداث تحولات سياسية، واجتماعية تؤسس لديمقراطية حديثة قائمة على احترام حقوق الانسان، ما دامت المجتمعات العربية ذاتها لا تمتلك القيم اللازمة لقبول المواطنة، وغرسها في النشء الجديد، لاسيما أن التغيير في بنية الدولة وقوانينها الناظمة للحريات السياسية والحياة العامة لن يؤتي ثماره في إحداث تغييرات جادة ودائمة، ما لم يرافقها تغيير في النظام التعليمي الذي يعيد إنتاج قيم الاستبداد التي تشكل القاعدة الفكرية لاندثار العمل الديمقراطي، وتغييب قيم المواطنة.
وأضاف ربابعة أن هذا لا يعني إغفال ما حققته بعض الدول العربية من مكتسبات مهمة في السنوات القليلة الماضية، أفضت لمراجعة عدد كبير من الدساتير العربية وتحديثها لتتضمن هذه المراجعة إقرار حقوق الإنسان الأساسية بشكل لا لبس فيه، وتأكيد مبادئ سيادة القانون، والاتجاه نحو تحقيق التوازن بين السلطات، مؤكدًا أن هذه المكتسبات تصب بالتأكيد في روافد بناء دولة الحقوق.
دور الثورات العربية في تعزيز أوضاع حقوق الإنسان:
وحول تداعيات الثورات العربية على واقع حقوق الإنسان في العالم العربي، ذكر علاء شلبي، أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان، أن الثورات العربية أعادت للأمة العربية نبضها، وأثبتت قدرتها على مقاومة الاستبداد والفساد، وأن ما عكف الغرب على تسميته بـ “الاستثناء العربي” ليس قدرًا مقدورًا، حيث جسدت هذه الثورات أحلامنا في بلوغ دولة الحقوق التي ننشدها، وقضينا عقوداً عديدة في البحث عنها وتصورها. وأضاف أنه دون التباكي على اللبن المسكوب، وكذلك دون تقليل المخاطر التي نعيشها، وفي مقدمتها تفسخ بلدان ومجتمعات، وتراجع قضايانا القومية الكبرى على سلم الأولويات، علينا أن نواصل المسيرة قدماً لبلوغ أهدافنا في الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، وحقوقنا في مجتمع المواطنة والتنوع والنظام الديمقراطي، والتنمية المنصفة التي تستهدف الإنسان.
وأوضح شلبي أنه في غضون رحلة البحث عن دولة الحقوق، وفي غمار الصعاب التي تلف المنطقة العربية، أفرزت حركة الشعوب مناخًا ممكنًا في ثلاثة بلدان هى: تونس، والمغرب، ومصر. وأكد أن هذه البلدان عانقت مفهوم الدولة، وتزخر بالمؤسساتية، والخبرة، والتقاليد. لذا، بزغت معطيات دستورية جديدة، من شأن وضعها محل التطبيق أن تولد سياقًا تشريعيًا مختلفًا يمكن أن ينتج بيئة جديدة بمعطيات مختلفة لفائدة حقوق الإنسان والحريات، وفي مقدمتها عشرات التشريعات. ولفت إلى توافر حركات حقوقية قوية في البلدان الثلاثة، وقضاء دستوري يجري التعويل عليه، كما تتوافر إرادة سياسية تم التعبير عنها، وإن كانت لم تختبر على النحو الكافي بعد.
ولفت شلبي في نهاية كلمته إلى أن سؤال العدالة الانتقالية يبقى أساسياً في استكمال نجاح الانتقال السياسي في كل من مصر، وتونس، وهو سؤال يجد سنده في دستور كلا البلدين، ومن شأنه أن يفك طلاسم وتعقيدات ولدتها عقود من الاستبداد والإجحافات، وسنوات من التخبط.
كما أشار محمد فائق إلى أن الربيع العربي أظهر نتائج إيجابية، رغم عناء أربع سنوات مضت شهدت الكثير من الانفلات فى الأمن، وتدهور الأوضاع الاقتصادية. وتتجسد أبرز هذه النتائج في إنهاء عصر حكم الفرد الواحد، وأصبحنا نجرى انتخابات سليمة، وفقا للمعايير الدولية، وهو ما لم يكن متاحًا قبل الربيع العربي. كما بات توريث السلطة فى النظم الجمهورية شيئًا غير ممكن، علاوة على أن العديد من الدول الأخرى التى لم تدخل الربيع العربى بدأت عملية إصلاح حقيقي، لأنها تعلم أن البديل هو الثورة بتكلفتها العالية. وأخيرًا، أصبحت هناك ثلاث دول عربية لها دساتير تؤكد بشكل واضح الحقوق والحريات، هى تونس، ومصر، والمغرب، موضحًا أن هذه الخطوة المهمة فى الوطن العربى يمكن البناء عليها، واتخاذها نموذجًا.
للاطلاع على المقالة بموقع جريدة السياسة الدولية تصدر عن مؤسسة الاهرام الاكتروني من خلال الرابط التالي: