حقوق الإنسان وتصويب المسارات .. مقال الاستاذ علاء شلبي – محام مصري – رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان – عضو الهيئة الاستشارية للاستراتيجية
حقوق الإنسان وتصويب المسارات
موقع عربي ووتش
مقال الاستاذ علاء شلبي – محام مصري – رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان – عضو الهيئة الاستشارية للاستراتيجية
يتيح إعلان الدولة المصرية للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان إحداث نقلات كبرى في التعاطي العربي والإسلامي مع قضية حقوق الإنسان، باعتبارها إعلان لمرحلة جديدة في تبني الدولة الأكثر تأثيراً في العالمين العربي والإسلامي لمسألة تعزيز حقوق الإنسان، وقدرتها على لعب دور القاطرة في هذا المجال من خلال تقديم النموذج والقدوة.
فخلال العقود الأربعة الأخيرة، عانت الدعوة لتعزيز حقوق الإنسان من الكثير من الالتباسات الثقافية، التي تجلى أبرزها عربياً فيما تعارف على تسميته بسؤال العالمية والخصوصية.
وشهد تنامي حركة حقوق الإنسان والدعوة لها تنامي أكثر قوة في تشويه الفكرة تحت دعاوى ومسميات متنوعة سياسية ودينية، تعمدت التغافل عن الموروث الحضاري الإيجابي للثقافة العربية الإسلامية من ناحية، وإغفال مساهمات الحكومات العربية والإسلامية في صوغ المعايير الدولية لحقوق الإنسان عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لا يمكن إغفال المعاناة العربية الخاصة من تسييس حقوق الإنسان في العلاقات والتفاعلات الدولية، فعلى سبيل المثال، لا تزال المنطقة تعاني من اختلال الموازين الدولية في التعاطي مع حقوق الشعب الفلسطيني رغم التنازلات الهائلة التي قدمتها القيادة الفلسطينية، ما شكل عاملاً لا يمكن الاستهانة من أثره في الإيمان الشعبي بحقوق الإنسان، كما جرى استغلاله بقوة من جانب نظم الحكم والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية لإضعاف الوعي بحقوق الإنسان.
وقد تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان ليضم حالياً تسع اتفاقيات عالمية، ومن بين 22 دولة عربية، فقد انضمت 21 دولة لمتوسط سبعة اتفاقيات، وبعضها مثل تونس والمغرب انضم إلى الاتفاقيات التسعة، والغالبية وبينها مصر انضمت إلى ثماني اتفاقيات. ومن بين 56 دولة إسلامية، بلغ متوسط الانضمام أيضاً سبع اتفاقيات لنحو 53 دولة.
لكن يعود عامل العلاقات الدولية ليؤثر سلباً على هذا المستوى الواضح من الإقرار العربي بحقوق الإنسان، ففي أقل من عام واحد على اعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية في نيويورك، انضمت 20 دولة عربية إلى 12 اتفاقية لمكافحة الإرهاب، وظل هذا الأمر يتخذ منحنى التصاعد بحيث باتت 16 دولة عربياً طرفاً في 18 اتفاقية لمكافحة الإرهاب. وهكذا نجد أن التأثير الدولي في مجال مكافحة الإرهاب كان أكثر قوة من التأثير الدولي في مجال حقوق الإنسان.
أكثر من ذلك، فإن الاتفاقيات الـ18 لمكافحة الإرهاب ناقضت في جزء معتبر منها حقوق مستقرة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
بالرغم من ذلك، فإن نظرة طائر محلق في أجواء المنطقة تكشف عن بنية مؤسساتية كبيرة تعمل على معالجة الالتزامات بحقوق الإنسان، فتوجد مؤسسات وطنية لحقوق الإنسان أنشأتها الدول العربية على غرار المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر في 17 بلداً عربياً، وتوجد لجان برلمانية لحقوق الإنسان في 11 دولة عربية، وتوجد إدارات حكومية لحقوق الإنسان في وزارات الخارجية والداخلية والعدل في 19 بلداً عربياً، وتوجد إدارات وأقسام لحقوق الإنسان في مجالس القضاء والنيابات العامة في 14 بلداً عربياً، بل وتوجد وزارات وهيئات وزارية مستقرة لحقوق الإنسان في 5 بلدان عربية، منها المغرب وتونس وموريتانيا والعراق، وأخيراً في مصر حيث تأسست اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان التابعة لمجلس الوزراء برئاسة وزير الخارجية وعضوية الوزارات الكبرى والمجالس المتخصصة.
وبينما يكشف ذلك عن إقرار رسمي عربي بحقوق الإنسان، إلا أن ذلك لا يعني تماماً توافر الإيمان بالحقوق والحريات في بنية الدولة العربية، حيث يأتي الأداء العام أقرب إلى إزاحة العبء منه إلى استثمار حقوق الإنسان في مسار السلم والأمن والتنمية.
من هنا تأتي أهمية طرح استراتيجيات وخطط وطنية للنهوض بحقوق الإنسان وتعزيز حمايتها واحترامها ونشر الإيمان بها، وهو ما يمكن تلمس جديته في الخطط والاستراتيجيات التي تبنتها الدولة في كل من الأردن والمغرب ومصر خلال السنوات الأربعة الأخيرة.
ولقد اكتسب إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في مصر مذاقاً خاصاً، يرتبط بداية بكونها الشقيقة الكبرى التي يتم اقتفاء أثرها في النطاق العربي، ولعل ذلك يستند بصورة أكبر على النفوذ التشريعي والقضائي الذي لا زالت تنعم به مصر في غالبية بلدان المنطقة.
ويرتبط ذلك ثانية باستعادة الدولة المصرية لعافيتها الأمنية والاقتصادية الكلية واستعادتها لمقعد القيادة في معالجة عدد من أزمات الإقليم، والتطلع الشعبي لدورها في معالجة الأزمات الأخرى.
ويرتبط ثالثة بالصورة الذهنية السلبية لأداء الدولة المصرية في مجال حقوق الإنسان في خضم الاضطراب السياسي المتنوع الذي يرزح تحته الإقليم. ومع الإقرار بوجود المبالغات في تناول وضعية حقوق الإنسان في مصر، فإن الفشل في معالجة وتصويب الأخطاء ذاتياً شكل القناة الأساسية للاصطياد والمبالغات، وتشجيع ممارسة الضغوط السياسية عليها من هذه النافذة.
لكن هل ينفي ذلك الحاجة الوطنية الماسة لإصلاح وضعية حقوق الإنسان؟، ونظرة الطائر المحلق على الإقليم تكفي للإجابة قطعياً على هذا السؤال، حيث قاد غياب تبني واحترام حقوق الإنسان إلى إضعاف التماسك الاجتماعي وزعزعة استقرار دول كبرى في الإقليم وتفتت وحدتها الترابية وفتح الباب على مصراعيه لتدخلات أجنبية مباشرة، عسكرية وغير عسكرية، بحيث باتت المنطقة تتصدر العالم في معدلات اللجوء والتشرد الداخلي ومعدلات البطالة بين الشباب.
تشكل حقوق الإنسان حجر زاوية في تعزيز الأمن بصورة مستدامة، فمن شأن احترام حقوق الإنسان أن يساهم في بناء البيئة الاجتماعية التي ترى أن أمنها الشخصي والأسري والجماعي والتنموي جزء لا يتجزأ من حماية أمن البلاد، ويساهم كذلك في نجاح جهود مكافحة الإرهاب، فالتنظيمات الإرهابية دائماً ما تستثمر المظالم في تجنيد مزيد من الضحايا.
وكما أن العلاقة عضوية بين حقوق الإنسان والحفاظ على الأمن، فحقوق الإنسان لا تنمو ولا تزدهر في ظل اضطراب، فإن إحداث التنمية التي تستند على الاستثمار في البشر هو العنصر الجوهري في بناء تنمية مستدامة وحماية المسيرة نحو الرفاه وجودة الحياة، وبالتالي فإن التنمية لا تزدهر إلا إذا كان غايتها الإنسان ومحورها وفاعلها الإنسان، وتكون عاملاً في حماية كرامته المتأصلة فيه، وهذا ما يتطلب تأمين قيم المساواة والحرية والعدالة والإخاء التي تشكل الأعمدة الجوهرية لحقوق الإنسان.
إن التنفيذ الجاد لما عبرت عنه القيادة السياسية وما تضمنته الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في مصر يتطلب العمل بشكل عاجل على تأسيس الشراكة التي دعت إليها الاستراتيجية بين اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان والمجلس القومي لحقوق الإنسان والمجتمع المدني باعتبارهم أضلاع المثلث الذهبي الذي نصت عليه الاستراتيجية لتنفيذ بنودها، ولعل أولى الخطوات المنشودة في هذا السياق هو التشاور بين أضلاع المثلث للتوصل لرؤية تنفيذية وترتيب للأولويات ووضع جدول زمني للمضي قدماً في تفعيل الاستراتيجية.