مقال الاستاذ عصام يونس مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان (فلسطين).. دلالات طلب “فتوى قانونية” من محكمة العدل الدولية
دلالات طلب “فتوى قانونية” من محكمة العدل الدولية
مقال/ أ.عصام يونس
أمد/ دلالات طلب “فتوى قانونية” من محكمة العدل الدولية حول الآثار القانونية الناشئة عن الانتهاك المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير
في الثلاثين من ديسمبر الماضي تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار ٧٧/٢٤٧، والذي يطلب من محكمة العدل الدولية فتوى قانونية (رأيا استشاري) حول المركز القانوني للاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد للأراضي الفلسطينية والتبعات القانونية الناشئة عنه. وكانت البعثة الدائمة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة قد تقدمت بتاريخ ١١ نوفمبر بمشروع القرار إلى اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، المعنية بإنهاء الاستعمار والتي وافقت عليه قبل اعتماده من قبل الجمعية العامة. وفي ٣ فبراير أعلنت المحكمة عن تلقيها طلبا لتقديم الرأي الاستشاري وحددت ٢٥ يوليو القادم موعدا لتقديم المداخلات من قبل الدول المعنية و٢٥ أكتوبر القادم موعدا لتلقي الردود.
ويأتي الرأي الاستشاري بعد الطلبات العديدة والمتكررة لكثيرين من الخبراء وفقهاء القانون وشخصيات دولية وازنة من بينهم مقرر الأمم المتحدة لحقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية السيدة فرانشيسكا البانيز والتي أكدت، كما سلفها السيد مايكل لنك، في تقريرها الصادر في سبتمبر من العام الماضي إلي أن تفعيل حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في تقرير المصير يتطلب تفكيك الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي الاستعماري القائم على نظام الفصل العنصري مؤكدة على أنه غير قانوني لأنه أثبت أنه ليس مؤقتا، وأدى إلى ضم الأراضي المحتلة، منتهكا بذلك معظم الالتزامات المفروضة على السلطة القائمة بالاحتلال وبأنه نظامٌ استحواذي وعنصري وقمعي يهدف إلى منع إعمال حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وبأن تفكيك هذا النظام الاستعماري هو شرط لإعمال حق الفلسطينيين غير القابل للتصرف في تقرير المصير وهو ما يتطلب من الدول الأخرى ألا تعترف بهذا الوضع غير القانوني وأن لا تساعد أو تحرض على ذلك وعلى المجتمع الدولي أن يتقيد بالتزاماته بموجب القانون الدولي بالإعمال الكامل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
وهو ما أكدته كذلك لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بالأراضي المحتلة،التي شكلها مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة في مايو ٢٠٢١، في تقريرها الذي نشرته في سبتمبر الماضي، بأن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بات الآن غير قانوني بموجب القانون الدولي بسبب ديمومته والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لضم أجزاء من الأرض فعليا وقانونيا. وإن الأعمال التي تقوم بها إسرائيل وتهدف الى خلق حقائق لا رجعة فيها على الأرض وتوسيع رقعة سيطرتها على الأراضي هي انعكاسات ودوافع لاحتلالها الدائم. وطلبت اللجنة بشكل واضح من محكمة العدل الدولية على وجه الاستعجال، اصدار فتوى بشـأن الآثار القانونية المترتبة على استمرار رفض إسرائيل انهاء احتلالها للأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، مما يرقى إلى حد الضم بحكم الواقع، ورفضها احترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
تضمن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالطلب من المحكمة في رأيها الاستشاري المأمول أولا، النظر في الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن. وثانيا، النظر في تأثير سياسات إسرائيل وممارساتها المشار اليها أعلاه على الوضع القانوني للاحتلال والآثار القانونية المترتبة عليه بالنسبة لجميع الدول وللأمم المتحدة.
محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتتمتع باختصاص مزدوج، حيث يمكنها ممارسة اختصاص النظر في نزاعات بين دول فقط وفقا للمادة ٣٤ من نظامها، حيث يشترط لممارستها ذلك الاختصاص موافقة أطراف النزاع على ولاية المحكمة في التحكيم في النزاع قيد النظر، ويمكنها ممارسة اختصاص تقديم الفتاوى القانونية في أية مسألة قانونية، للجهات التي نصت عليها المادة ٩٦ من ميثاق الأمم المتحدة، وهي الجمعية العامة ومجلس الأمن ولسائر فروعها والوكالات المتخصصة المرتبطة بها، ممن يجوز أن تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت.
على الرغم من أن الفتوى القانونية، ليست ملزمة من الناحية القانونية، إلا أنها بالغة الأهمية لما تحظى به أولا، من حجية قانونية وموثوقية كبيرة، وثانيا، لما تمثله من قيمة وحجية أخلاقية كبيرة باعتبارها صادرة عن أعلى الهيئات القضائية الكونية التي ارتضاها العالم المتحضر لنفسه وثالثا، ما تمثله أيضا من قيمة سياسية وقانونية نوعية بالنظر إلي التصويت الكبير الداعم للقرار من قبل الجمعية العامة وهو نوع من الإقرار بولاية المحكمة ودعمها في ظل عدم موافقة الدولة الطرف في النزاع ، دولة الاحتلال، على ولاية المحكمة في اختصاصها القضائي.
منذ أن أصدرت المحكمة في ٢٠٠٤ رأيها الاستشاري المتعلق بالجدار، شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة تدهورا بالغ الخطورة في كل المستويات، حيث تواصل سلطات الاحتلال، تفتيتا منظما لوحدة الأراضي الفلسطينية ووحدة سكانها وفي ظل تغول غير مسبوق في الحقوق الفلسطينية والمحاولات المتواصلة لاجثتات الشعب الفلسطيني من أرضه والقيام بخطوات وإجراءات عملية لضم الأراضي الفلسطينية قانونيا بعد أن احكمت قبضتها عليها وضمتها من الناحية الفعلية.
تواصل سلطات الاحتلال، عزل قطاع غزة وإيقاع العقاب الجماعي بحق سكانه وتفرض عليه حصارا مشددا متواصلا منذ ١٥ عاما تقيد من خلاله حركة الأفراد ومن بينهم المرضى والطلبة وكذلك حركة البضائع تصديرا واستيرادا والاحتياجات الحيوية كالأدوية والتجهيزات طبية وغيرها. ترافق الحصار مع خمسة حروب على القطاع شنتها قوات الاحتلال وارتكبت خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، عندما قصفت منازل على رؤوس ساكنيها ودمرت أبراج وبنى تحتية وقتلت وجرحت آلاف الأطفال والنساء، وبالمقابل تواصل غزل مدينة القدس عن باقي الأراضي وتقوم بعملية تطهير عرقي للمدينة واستئصال لهويتها العربية، الإسلامية والمسيحية، وتضيق العيش على السكان لدفعهم لترك منازلهم في وقت تقوم بعمل محموم من هدم منظم لمنازل الفلسطينيين وباستهداف المواقع الدينية ولاسيما المسجد الأقصى كما وتقوم بعزل شمال الضفة عن جنوبها ومدن الضفة عن قراها.
ويأتي كل ذلك في سياق السعي المحموم لتكثيف الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية ومواصلة السيطرة على الموارد الفلسطينية ولا سيما المياه والأرض وتقييد استخدامهما. يشير التقرير الصادر عن الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء في الذكرى ٤٧ ليوم الأرض، بأن عدد المواقع الاستيطانية والقواعد العسكرية في الضفة الغربية في نهاية العام ٢٠٢١ بلغ ٤٨٣ موقعا وبلغ عدد المستوطنين حوالي ٧٢٠ ألف مستوطن، ويشير أيضا إلى أن العام ٢٠٢٢ شهد زيادة غير مسبوقة في بناء وتوسيع المستوطنات، حيث صادقت سلطات الاحتلال على نحو ٨٣ مخططا لبناء ٢٢ الف وحدة استيطانية في الضفة بما فيها القدس.
إن التوجه للجمعية العامة للطلب من محكمة العدل الدولية لإعطاء الرأي الاستشاري حول القضايا المشار إليها بالغ الأهمية ، وهو يعكس رفضا لما بدا أنه ثابت في الفعل الدولي بالإصرار على أن العدالة والسلام خطان متوازيان لا يلتقيان، ويأتي تأكيدا على أن شرط السلام هو العدالة الواجبة ومن شروطه أيضا؛ حماية السكان المدنيين وممتلكاتهم وبأن من ارتكب أو أمر بارتكاب تلك الجرائم الخطيرة يجب أن يجلب للعدالة.
أن القرار بالغ الأهمية أيضا في أنه يأتي أيضا في سياق تغير الأولويات على المستوى الكوني وازدحام الأجندة الدولية بعشرات حالات الصراع وعدم الاستقرار وليس آخرها حالة أوكرانيا، ويجب هنا التأكيد على أن الشرعية لا تصنع العدالة، بل هي شرط ضروري ولكنه غير كاف للوصول لها وهو ما يتطلب تعظيم الاشتباك السياسي والدبلوماسي والقانوني وتوظيف كل الهوامش المتاحة وخلق هوامش جديدة لإعادة الاعتبار للقضية الوطنية الكبرى ولتظهير غياب العدالة المزمن والتسييس الخطير لمباديء المساءلة والمحاسبة وهي مقدمات ضرورية لإعادة موضعة الذات في عالم أضحى أشد اختلالا وتراجعا.
إن القرار يعكس في جزء مهم منه، أيضا، غضبا ورفضا فلسطينيا للنفاق الدولي الأمريكي والأوروبي الذي طالما وفر حماية وغطاء للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي ولما ينطوي عليه من إفشال (تعطيل) لأي ممكنات لمحاسبة إسرائيل ومساءلتها وهي القوة القائمة بالاحتلال على الجرائم المرتكبة سواء بعدم تفعيل توصيات الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول الجدار في العام ٢٠٠٤ أو عدم دعم التحقيق الذي قررت القيام به المحكمة الجنائية الدولية منذ أكثر من عامين وهو الذي لم يتقدم خطوة واحدة لنصفة الضحايا وملاحقة المجرمين أو ذلك المتعلق بنشر قاعدة بيانات الشركات التي تقوم بأعمال في المستوطنات في مخالفة للقواعد الأساسية للقانون الدولي، حتى ليبدو أن العدالة في خصام مزمن مع هذا المكان من العالم.
ذلك كله في الوقت الذي يظهر فيه نفاق المجتمع الدولي وازدواجية معاييره بشكل فاجر عندما فعل نظاما فوريا للعقوبات بأشكالها المختلفة بحق روسيا عندما شنت عدوانها على أوكرانيا، ودعم فتح التحقيق الذي باشرته المحكمة الجنائية الدولية وخصص للمحكمة موارد مالية وبشرية ومقدرات أخرى غير مسبوقة، حتى وصل الأمر إلى إصدار مذكرة توقيف للرئيس الروسي من قبل المحكمة في عدوان لازال عمره عاما بينما العدوان على الشعب الفلسطيني متواصل والمحاولات الحثيثة لاستئصاله من أرضه تتم بلا هودة لما يزيد عن ٧٥ عاما ولما تقترب العدالة ولو انشا واحدا من الضحايا الفلسطينيين شعبا وأفرادا.
إن التوجه للمحكمة الدولية يأتي كخطوة أخرى، وإن بدت رمزية، في سياق السعي نحو العدالة وهو الفعل الإنساني العظيم الذي لا يتحقق بالضربة القاضية وإنما بمجموع النقاط، إن مسار العدالة مسار طويل ومليء بالعثرات والتحديات خصوصا في ظل الواقع الكوني والإقليمي غير المؤاتي، ولكنه مسارٌاجباري وذو اتجاه واحد لارجعة فيه.