الرأي الاستشاري للعدل الدولية ينتصر للعدالة ويجب استثماره

0 327

الرأي الاستشاري للعدل الدولية ينتصر للعدالة ويجب استثماره

                                           علاء شلبي (*)

 

يُوفر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن قانونية سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 انتصاراً مهماً للعدالة الدولية، ويُتيح سنداً قانونياً إضافياً لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، وبرغم كل الإحباط السائد إزاء اختلال النظام الدولي وازدواجية المعايير، فإن هذا السند يساعد في مقاومة محاولات تقويض، بل ومحاولات دفن الاهتمام العالمي بالحقوق الفلسطينية ويمنحها مزيد من الطاقة والحيوية.

وكما هو معروف، فالرأي الاستشاري الصادر في 19 يوليو 2024 بموجب طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة ليس الأول من نوعه، حيث صدر الرأي الاستشاري للمحكمة ذاتها في 9 يوليو 2004 بشأن قانونية جدار العزل في الضفة الغربية، وبموجب الإحالة من الجمعية العامة إلى المحكمة في 2003، وبموجب المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة أيضاً، ومع شديد الأسف لم يتم الاستفادة منه منذ العام 2004 سوى فيما ندر عبر جهود مهمة بذلتها المنظمات الحقوقية الفلسطينية.

ويثور التساؤل حول جدوى الرأي الاستشاري وآثاره، وهو تساؤل مشروع، ومن المفيد في الإجابة عليه أن نأخذ بعين الاعتبار بعض الحقائق، فالإحالة الأولى من الجمعية العامة في العام 2003 كانت بأغلبية تزيد عن 130 دولة أنذاك، وجاءت الإحالة في أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى)، بينما الإحالة هذه المرة والتي جرت في ديسمبر 2022 بموجب القرار 247/77 جاءت بأغلبية متواضعة حيث أيدتها 87 دولة فقط، كما عارضتها 26 دولة، وامتنعت 53 دولة عن التصويت وهو معدل لافت وغير مسبوق، ومن هنا يمكن أن نلمس تراجعا بين 2004 و2022 في مستوى التأييد للحقوق الفلسطينية في الجمعية العامة، وهو تراجع قد انتهى عهده في ضوء العدوان الجاري حالياً.

فالجلسات التي عقدتها المحكمة في 19 – 26 فبراير 2024 لحسم الآثار القانونية للاحتلال شهدت مشاركة محمومة من 52 دولة في خضم العدوان الإسرائيلي الجاري في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة وجريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة والتي قبلت المحكمة دعوى جنوب أفريقيا بشأنها في 26 يناير 2024، وقد جرت في النهر مياه أخرى كثيرة بعد أن أضافت المحكمة تدابير احترازية جديدة في مايو 2024 بالإضافة إلى التدابير الاحترازية التي كانت أصدرتها لدى قبولها الدعوة في 26 يناير 2024.

ومن المتوقع أن تحتضن الجمعية العامة الرأي الاستشاري للمحكمة بصورة أكبر مما جرى في العام 2004، حيث تزايدت أعداد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى 147 دولة، وهو الاعتراف الذي من شأنه أن يدعم تبني الجمعية للرأي الاستشاري لمستويات غير مسبوقة لم تعرفها الجمعية العامة خلال الـ35 عاماً الأخيرة.

كذلك جرى بالتوازي مع ذلك تحرك جهاز مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية الذي جاء متأخراً للغاية في مايو 2024 والذي طلب توقيف 5 مشتبه بهم، بينهم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت في إجراء كان مستبعداً بسبب الاختلالات العميقة في السياسة الدولية.

ولا يمكن المرور دون الإشارة إلى التراخي المؤسف للغرفة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية عن اعتماد مذكرات التوقيف التي طلبها المدعي العام، وهو تراخي لا يمكن تجاهله، فلم يكن من الجدير بالغرفة التمهيدية أن تقبل إرجاء قرارها استناداً على طلب حكومة المملكة المتحدة التي تنازع في اختصاص المحكمة، وهو الاختصاص الذي سبق وحسمته الغرفة التمهيدية للمحكمة في 5 فبراير 2021، ويدرك الخبراء أن طلب حكومة المملكة المتحدة لم يكن يستهدف سوى كسب مزيد من الوقت وتأجيل اعتماد مذكرات التوقيف لتجنب الحرج السياسي الذي سيتولد عن مرور طائرة المتهم المطلوب توقيفه بنيامين نتنياهو في أجواء أوروبية خلال رحلته إلى واشنطن، حيث كافة دول الاتحاد الأوروبي هي دول أطراف في المحكمة الجنائية الدولية وستكون في حرج سياسي غير بسيط، على الأقل أمام الرأي العام في أوروبا إن هي سمحت لنتنياهو بعبور أجوائها دون تنفيذ أمر القبض عليه.

كذلك لا يمكن سوى توبيخ مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية لأنه لم يوجه الاتهام إلى أي من القادة العسكريين والأمنيين البارزين، وهو ما يثير المخاوف بشأن مستقبل التحقيقات وقوة الاتهامات في شأن كل من نتنياهو وجالانت اللذين يمثلان المستوى السياسي.

وعودة إلى العدل الدولية، يجب النظر بتقدير كبير لقرارات المحكمة، وخاصة الفهم الصحيح لأن قبول المحكمة في 26 يناير 2024 نظر دعوى جنوب أفريقيا يعني أن إسرائيل باتت متهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية “المحتملة”، وهو أمر ليس بالهيَن من ثلاث زوايا، الأولى أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عامة والدول الأطراف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ملزمة بالتحرك بصورة جماعية وبصورة فردية لمنع جريمة الإبادة الجماعية “المحتملة”، حيث تمثل جريمة الإبادة الجماعية أم الجرائم.

والزاوية الثانية أن استخدام الإدارة الأمريكية حق النقض “الفيتو” على نحو ما جرى لمنع مجلس الأمن من إصدار قراره بتنفيذ التدابي رالاحترازية للمحكمة يدعم سقوط الولايات المتحدة الأمريكية في براثن التجريم الذي تفرضه الاتفاقية بموجب المادة (3) الفقرة (هاء) من الاتفاقية التي تُجرم التواطوء في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

والزاوية الثالثة تتعلق بأن إسرائيل التي احترفت تسويق نفسها باستلاب ما جرى لليهود في المحرقة “الهولكوست” لم يعد بوسعها التلاعب بهذه الرواية مجدداً للتغطية على الجرائم والفظاعات التي ترتكبها بحق الفلسطينيين وبحق كل ما هو عربي، وبالتاي فقدت أحد أهم أسلحتها ولا يوجد شاهد على ذلك أكثر دلالة من الاحتجاجات الطلابية التي ملأت المجتمعات الحليفة لإسرائيل.

وخاتمة القول أن اختلال المعايير لم يحل دون توظيف ما أمكن من معايير القانون الدولي على النحو الذي حقق متغيرات ذات طبيعة سياسية، من ناحية أجهضت هذه التحركات القانونية سنوات من الجهد والاستثمار الإسرائيلي الغربي لدفن القضية الفلسطينية والتخلص من استحقاقاتها بصورة نهائية.

ومن ناحية ثانية وفرت لحقوق الشعب الفلسطيني وضع الأولوية على أجندة اهتمامات المجتمع الدولي الممتلئة بفعل المخاض الذي بات يحكم النظام العالمي ووضعت فلسطين المحتلة على نفس المائدة مع كل من أوكرانيا وتايوان والحروب التجارية المتنامية، وعلى المجموعة العربية أن تعيد طرح مشروع قرار ملزم على مجلس الأمن الدولي لتنفيذ التدابير الاحترازية للمحكمة، وسيكون لاستخدام الإدارة الأمريكية لحق النقض مصدراً لإدانة أخلاقية أكبر أثراً.

ومن ناحية ثالثة تُوفر هذه الخطوات قدراً هائلاً من الشرعية لكافة التحركات المساندة للحقوق الفلسطينية سواء المساندات السياسية وحتى المساندات العسكرية الخشنة التي سقطت معها نظرية الردع الإسرائيلي.

ومن ناحية رابعة تسمح هذه التطورات بتعظيم مزيد من التحركات القانونية وخاصة التفكير في دعوة الدول الأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 لعقد مؤتمرها الطارئ للنظر في التدابير الواجبة بموجب الاتفاقية لوقف العدوان ومساءلة الجناة.

ولا يمكن تجاهل أن كل ذلك ما كان ليحدث دون هذا الكم الهائل والمرعب من التضحيات والدماء الفلسطينية الذكية التي جعلت العالم يشعر بالخزي والعار.

* * *

(*) محام – رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد